Total Pageviews

Thursday, August 26, 2010

امامنا الشافعي

إمامنا، رضى الله عنه
2 - إمامنا، رضى الله عنه، هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصى القريشى المطلبى الشافعى الحجازى المكى(1):
ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يلتقى معه فى عبد مناف. وقد أكثر العلماء، رحمهم الله تعالى، من المصنفات فى مناقب الشافعى وأحواله من المتقدمين والمتأخرين، كداود الظاهرى، والساجى، وخلائق من المتقدمين، وأما المتأخرين كالدارقطنى، والآجرى، والرازى، والصاحب بن عباد، والبيهقى، ونصر المقدسى، وخلائق لا يحصون، فكتبهم فى مناقبه مشهورة، ومن أحسنها وأثبتها كتاب البيهقى، وهو مجلدان ضخمان مشتملان على نفائس من كل فن، استوعب فيهما معظم أحواله ومناقبه بالأسانيد الصحيحة والدلائل الصريحة، وكتابنا هذا مبنى على الاختصار، فلا يليق به البسط والتطويل والإكثار، فأقتصر فيه إن شاء الله تعالى على الإشارة إلى نبذ من تلك المقاصد والمرمز إلى جُمل من تلك الكليات والمعاقد، فأقول مستعينًا بالله متوكلاً عليه، مفوضًا أمرى إليه:
الشافعى، رضى الله عنه، قريشى مطلبى بإجماع أهل النقل من جميع الطوائف، وأمه أزدية، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة فى فضل قريش، وانعقد الإجماع على تفضيلهم على جميع قبائل العرب وغيرهم.
__________
وفى الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأئمة من قريش"(1). وفى صحيح مسلم، عن جابر، رضى الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الناس تبع لقريش فى الخير والشر"(2). وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا"(3). وفى صحيح مسلم أيضًا عن واثلة بن الأسقع، رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم"(4).وفى صحيح البخارى عن جبير بن مطعم، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شىء واحد"(1). وفى صحيح كتاب الترمذى، عن أنس بن مالك، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأزد أسد الله فى الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتين على الناس زمان يقول الرجل: يا ليتنى كنت أزديًا، ويا ليت أمى كانت أزدية"(2). قال الترمذى: وروى موقوفًا عن أنس، وهو عندنا أصح.
وفى الترمذى أيضًا عن أبى هريرة، رضى الله عنه، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "الملك فى قريش، والقضاء فى الأنصار، والأذان فى الحبشة، والأمانة فى الأزد"(3)، يعنى اليمن. قال الترمذى: وروى موقوفًا عن أبى هريرة، وهو أصح.

فصل فى مولد الشافعى، رحمه الله، ووفاته
وذكر نبذ من أموره وحالاته
أجمعوا على أنه ولد سنة خمسين ومائة، وهى السنة التى توفى فيها أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، وقيل: إنه فى اليوم الذى توفى فيه أبو حنيفة. قال البيهقى: ولم يثبت اليوم، ثم المشهور الذى عليه الجمهور أن الشافعى ولد بغزة، وقيل: بعسقلان، وهما من الأرض المقدسة التى بارك الله فيها، فإنهما على نحو من مرحلتين من بيت المقدس، ثم حُمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفى بمصر سنة أربع ومائتين، وهو ابن أربع وخمسين سنة. قال الربيع: توفى الشافعى، رحمه الله تعالى، ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده، ودفن بعد العصر يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وقبره رحمه الله تعالى بمصر، عليه من الجلالة وله من الاحترام ما هو لائق بمنصب ذلك الإمام.
قال الربيع: رأيت فى النوم أن آدم، عليه السلام، مات، فسألت عن ذلك، فقيل: هذا موت أعلم أهل الأرض؛ لأن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسير فمات الشافعى، رحمه الله، ورأى غيره ليلة مات الشافعى قائلاً يقول: الليلة مات النبى - صلى الله عليه وسلم -، وحزن الناس لموته الحزن الذى يوازى رزيتهم به.
فصل
نشأ الشافعى، رضى الله عنه، يتميًا فى حجر أمه فى قلة عيش وضيق حال، وكان فى صباه يجالس العلماء، ويكتب ما يستفيده فى العظام ونحوها؛ لعجزه عن الورق، حتى ملأ منها حبابًا. عن مصعب بن عبد الله الزبيرى، قال: كان الشافعى، رحمه الله، فى ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم أخذ فى الفقه. قال: وكان سبب أخذه فيه أنه كان يسير يومًا على دابة له وخلفه كاتب لأبى، فتمثل الشافعى ببيت شعر، فقرعه كاتب أبى بسوطه، ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته فى مثل هذا، أين أنت من الفقه؟! فهزه ذلك، فقصد مجالسة مسلم بن خالد الزنجى مفتى مكة، ثم قدم علينا، يعنى المدينة، فلزم مالكًا، رحمه الله.

وعن الشافعى، قال: كنت أنظر فى الشعر، فارتقيت عقبة بمنى، فإذا صوت من خلفى: عليك بالفقه. وعن الحميدى قال: قال الشافعى: خرجت أطلب النحو والأدب، فلقينى مسلم بن خالد الزنجى، فقال: يا فتى، من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، قال: أين منزلك؟ قلت: بشعب الخيف، قال: من أى قبيلة أنت؟ قلت: من عبد مناف، فقال: بخ بخ، لقد شرفك الله فى الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا فى الفقه فكان أحسن لك؟!.
فصل
فلما أخذ الشافعى، رحمه الله، فى الفقه، وحصل منه على مسلم بن خالد الزنجى وغيره من أئمة مكة ما حصل، رحل إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبى عبد الله مالك بن أنس، رضى الله عنه، ورحلته مشهورة فيها مصنف معروف مسموع، وأكرمه مالك، رحمه الله، وعامله لنسبه، وعلمه وفهمه وعقله وأدبه بما هو اللائق بهما، وقرأ الموطأ على مالك حفظًا، فأعجبته قراءته، فكان مالك يستزيده من القراءة لإعجابه من قراءته، ولازم مالكًا فقال له: اتق الله، فإنه سيكون لك شأن. وفى رواية أنه قال له: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية.
وكان للشافعى حين أتى مالكًا ثلاث عشرة سنة، ثم ولى باليمن واشتهر من حسن سيرته، وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة، ثم رحل إلى العراق، وجدّ فى الاشتغال بالعلم، وناظر محمد بن الحسن وغيره، ونشر علم الحديث، وأقام مذهب أهله، ونصر السنة، وشاع ذكره وفضله وتزايد تزايدًا ملأ البقاع، وطلب منه عبد الرحمن بن مهدى إمام أهل الحديث فى عصره أن يُصَنِّف كتابًا فى أصول الفقه، وكان عبد الرحمن ويحيى بن سعيد القطان يعجبان بكتاب الرسالة، وكذلك أهل عصرهما ومن بعدهما، وكان القطان وأحمد بن حنبل يدعوان للشافعى، رضى الله عنهم أجمعين، فى صلاتهم؛ لما رأيا من اهتمامه بإقامة الدين ونصر السنة وفهمها، واقتباس الأحكام منها، وأجمع الناس على استحسان رسالته، وأقوال السلف فى ذلك مشهورة بأسانيدها.
قال المزنى: قرأت الرسالة خمسمائة مرة، ما من مرة إلا واستفدت منها فائدة جديدة. وقال المزنى أيضًا: أنا أنظر فى الرسالة من خمسين سنة، ما أعلم أنى نظرت فيها مرة إلا استفدت منها شيئًا لم أكن عرفته.
فلما اشتهرت جلالة الشافعى، رحمه الله، فى العراق، وسار ذكره فى الآفاق، وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون، واعترف به العلماء أجمعون، وعظمت عند الخلائق وولاة الأمور مرتبته، واستقرت عندهم جلالته وإمامته، وظهر من فضله فى مناظراته أهل العراق وغيرهم ما لم يظهر لسواه، وأظهر من بيان القواعد ومهمات الأصول ما لم يعرف لمن عداه، وامتحن فى مواطن كثيرة مما لا يحصى من المسائل، فكان جوابه فيها من الصواب والسداد بالمحل الأعلى والمقام الأسنى، عكف عليه للاستفادة منه الصغار والكبار، والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم، ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، وتمسكوا بطريقته كأبى ثور وخلائق من الأئمة، وترك كثير منهم الأخذ عن شيوخهم وكبار الأئمة لانقطاعهم إلى الشافعى حين رأوا عنده ما لا يجدون عند غيره، وبارك الله الكريم له ولهم فى تلك العلوم الباهرة والمحاسن المتظاهرة والخيرات المتكاثرة، ولله الحمد على ذلك وعلى سائر نعمه التى لا تحصى.

صنف فى العراق كتابه القديم المسمى كتاب الحجة، ويرويه عنه أربعة من كبار أصحابه العراقيين، وهم أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفرانى، والكرابيسى، وأتقنهم له رواية الزعفرانى. ثم خرج الشافعى، رحمه الله، إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة. وقال أبو عبد الله حرملة بن يحيى: قدم الشافعى مصر سنة تسع وتسعين ومائة. وقال الربيع: سنة مائتين، ولعله قدم فى آخر سنة تسع جمعًا بين الروايتين، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره فى البلدان، وقصده الناس من الشام واليمن والعراق وسائر النواحى والأقطار للتفقه عليه والرواية عنه، وسماع كتبه منه، وأخذها عنه، وساد أهل مصر وغيرهم، وابتكر كتبًا لم يسبق إليها، منها أصول الفقه، وكتاب القسامة، وكتاب الجزية، وكتاب قتال أهل البغى، وغيرها.
قال الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الرازى فى كتابه مناقب الشافعى: سمعت أبا عمرو أحمد بن على بن الحسن البصرى، قال: سمعت محمد بن أحمد بن سفيان الطرائفى البغدادى يقول: سمعت الربيع بن سليمان يومًا وقد حط على باب داره تسعمائة راحلة فى سماع كتب الشافعى، رحمه الله ورضى عنه.
فصل فى تلخيص جملة من أحوال الشافعى
اعلم أنه، رضى الله عنه، كان من أنواع المحاسن بالمحل الأعلى، والمقام الأسنى؛ لما جمعه الله الكريم له من الخيرات، ووفقه له من جميل الصفات، وسهله عليه من أنواع المكرمات، فمن ذلك شرف النسب الطاهر، والعنصر الباهر، واجتماعه هو ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى النسب، وذلك غاية الشرف ونهاية الحسب. ومن ذلك شرف المولد والمنشأ، فإنه ولد بالأرض المقدسة، ونشأ بمكة. ومن ذلك أنه جاء بعد أن مهدت الكتب وصنفت وقررت الأحكام ونقحت، فنظر فى مذاهب المتقدمين، وأخذ من الأئمة المبرزين، وناظر الحذاق المتقنين، فبحث مذاهبهم وسبرها وتحققها وخبرها، فلخص منها طريقة جامعة للكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولم يقتصر على ذلك كما وقع لغيره، وتفرغ للاختيار والتكميل والتنقيح مع كمال قوته وعلو همته وبراعته فى جميع أنواع الفنون، واضطلاعه منها أشد اضطلاع، وهو المبرز فى الاستنباط من الكتاب والسنة، البارع فى معرفة الناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين، والخاص والعام، وغيرها من تقاسيم الخطاب، فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا الباب؛ لأنه أول مَن صَنَّف أصول الفقه بلا اختلاف ولا ارتياب، وهو الذى لا يساوى، بل لا يدانى فى معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورد بعضها إلى بعض، وهو الإمام الحجة فى لغة العرب ونحوهم، فقد اشتغل فى العربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته، ومع أنه عربى اللسان والدار والعصر، وبها يعرف الكتاب والسنة.
قال عبد الملك بن هشام صاحب المغازى: إمام أهل مصر فى عصره فى اللغة والنحو الشافعى، حجة فى اللغة، وكان إذا شك فى شىء من اللغة بعث إلى الشافعى فسأله عنه. وقال أبو عبيد: كان الشافعى ممن تؤخذ عنه اللغة. وقال أيوب بن سويد: خذوا عن الشافعى اللغة. وقال أبو عثمان المازنى: الشافعى عندنا حجة فى النحو.
وقال الأصمعى: صححت أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة يقال له: محمد ابن إدريس. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعى يقول: أروى لثلاثمائة شاعر مجنون. وقال الزبير بن بكار: أخذت شعر هذيل ووقائعها وأيامها من عمى مصعب، وقال: أخذتها من الشافعى حفظًا. وأقاوئل العلماء فى هذا كثير.
وهو الذى قلد المنن الجسيمة أهل الآثار، وحملة الحديث، ونقلة الأخبار بتوقيفه إياهم على معانى السنن وتبيينه وقذفه بالحق على باطل مخالفى السنن وتمويههم، فنعشهم بعد أن كانوا خاملين، وظهرت كلمته على جميع المخالفين، ودمغهم بواضحات البراهين، حتى ظلت أعناقهم لها خاضعين.
قال محمد بن الحسن، رحمه الله: إن تكلم أصحاب الحديث يومًا فبلسان الشافعى، يعنى لما وضع من كتبه. وقال الحسن بن محمد الزعفرانى: كان أصحاب الحديث رقودًا فأيقظهم الشافعى فتيقظوا. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد مس بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعى فى رقبته منة. فهذا قول إمام أصحاب الحديث وأهله، ومن لا يختلف الناس فى ورعه وفضله.
ومن ذلك أن الشافعى، رحمه الله، مكنه الله تعالى من أنواع العلوم، حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون، واعترف بتبريزه، وأذعن الموافقون والمخالفون فى المحافل الكثيرة المشهورة المشتملة على أئمة عصره فى البلدان، وهذه المناظرات موجودة فى كتبه وكتب العلماء معروفة عند المتقدمين والمتأخرين. وفى كتاب الأم للشافعى، رحمه الله، من هذه المناظرات جُمل من العجائب والنفائس الجليلات، والقواعد المستفادات، وكم من مناظرة واقعة فيه يقطع كل من وقف عليها وأنصف وصدق أنه لم يُسبق إليها، ومن ذلك أنه تصدر فى عصر الأئمة المبرزين للإفتاء والتدريس والتصنيف، وقد أمره بذلك شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجى إمام أهل مكة ومفتيها، وقال له: افت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتى، وكان للشافعى إذ ذاك خمس عشرة سنة. وأقاويل أهل عصره فى هذا كثيرة مشهورة.
وأخذ عن الشافعى، رحمه الله، العلم فى سن الحداثة مع توفر العلماء فى ذلك العصر، وهذا من الدلائل الصريحة لعظم جلالته وعلو مرتبته، وهذا كله مشهور فى كتب مناقبه وغيرها، ومن ذلك شدة اجتهاده فى نصرة الحديث، واتباع السنة، وجمعه فى مذهبه بين أطراف الأدلة، مع الإتقان والتحقيق والغوص التام على المعانى والتدقيق، حتى لُقِّب حين قدم العراق بناصر الحديث، وغلب فى عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسانيين على متبعى مذهبه لقب أصحاب الحديث فى القديم والحديث.
وقد روينا عن إمام الأئمة أبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكان من حفظ الحديث ومعرفة السنة بالغاية العالية، أنه سُئل: هل سنة صحيحة لم يودعها الشافعى كتبه؟ قال: لا، ومع هذا فاحتاط الشافعى، رحمه الله، لكون الإحاطة ممتنعة على البشر، فقال: ما هو ثابت عنه من أوجه من وصيته بالعمل بالحديث الصحيح وترك قوله المخالف للنص الثابت الصريح، وقد امتثل أصحابنا، رحمهم الله، وصيته، وعملوا بها فى مسائل كثيرة مشهورة، كمسألة التثويب فى أذان الصبح، واشتراط التحلل فى الحج بعذر المرض ونحوه، وغير ذلك مما هو معروف، ولكن لهذا شرط قل من يتصف به فى هذه الأزمان، وقد أوضحته فى مقدمة شرح المهذب.
ومن ذلك تمسكه بالأحاديث الصحيحة، وإعراضه عن الأخبار الواهية والضعيفة، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء اعتنى فى الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح والضعيف كاعتنائه ولا قريبًا منه، فرضى الله عنه، وهذا واضح جلى فى كتبه، وإن كان أكثر أصحابنا لم يسلكوا طريقته فى هذا. ومن ذلك أخذه، رحمه الله، بالاحتياط فى مسائل العبادات وغيرها مما هو معروف. ومن ذلك شدة اجتهاده فى العبادة وسلوط طرائق الورع والسخاء والزهادة، وهذا من خلقه وسيرته مشهور معروف، ولا يتمارى فيه إلا جاهل أو ظالم عسوف، فكان رضى الله عنه، بالمحل الأعلى من متانة الدين، وهذا مقطوع بمعرفته عند الموافقين والمخالفين:
وليس يصح فى الأذهان شىء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما سخاؤه، وشجاعته، وكمال عقله، وبراعته، فإنه مما اشترك الخواص والعوام فى معرفته، فلا أستدل عليه لشهرته، وكل هذا مشهور فى كتب المناقب مروى من طرق. ومن ذلك ما جاء فى الحديث المشهور: "إن عالم قريش يملأ طباق الأرض علمًا"(1)، وحمله العلماء المتقدمون والمتأخرون على الشافعى، رحمه الله، واستدلوا له بأنه لم ينقل عن الصحابة، رضى الله عنهم، إلا مسائل معدودة إذ كانت فتاويهم مقصورة على الوقائع، بل كانوا ينهون عن السؤال عما لم يقع، وكانت همتهم مصروفة إلى جهاد الكفار لإعلاء كلمة الإسلام، وإلى مجاهدة النفوس والعبادة، فلم يتفرغوا للتصنيف، وكذلك التابعون لم يصنفوا، وأما من جاء بعدهم وصنف الكتب، فلم يكن فيهم قرشى يتصف بهذه الصفة قبل الشافعى ولا بعده إلا هو.
وقد قال الساجى، رحمه الله، فى أول كتابه المشهور فى اختلاف العلماء: إنما بدأت بالشافعى قبل جميع الفقهاء وقدمته عليهم، وإن كان فيهم أقدم منه؛ اتباعًا للسنة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قدموا قريشًا وتعلموا من قريش
وقال الإمام أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدى الإستراباذى صاحب الربيع بن سليمان المرادى: فى هذا الحديث علامة بينة، إذا تأمله الناظر المميز علم أن المراد به رجل من علماء هذه الأمة من قريش، ظهر علمه وانتشر فى البلاد، وكتب كما يكتب المصاحف، ودرسه المشايخ والشبان فى مجالسهم، وأجروا أقاويله فى مجالس الحكام، والأمراء، والقراء، وأهل الآثار، وغيرهم. قال: وهذه صفة لا نعلمها فى أحد غير الشافعى. قال: فهو عالم قريش الأفضل الذى دون العلم، وشرح الأصول والفروع، ومهد القواعد. قال البيهقى بعد روايته كلام أبى نعيم: وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل فى تأويل الخبر.
ومن ذلك مصنفات الشافعى، رحمه الله، فى الأصول والفروع التى لم يسبق إليها كثرة وحسنًا، وهى كثيرة مشهورة، كالأم فى نحو خمسة عشر مجلدًا، وهو مشهور، وجامعى المزنى الكبير والصغير، ومختصريه، ومختصر الربيع، والبويطى، وكتاب حرملة، وكتاب الحجة، وهو القديم، والرسالة الجديدة والقديمة، والأمالى، والإملاء، وغير ذلك مما هو معروف، وقد جمعها البيهقى فى باب من كتابه فى مناقب الشافعى
قال القاضى الإمام أبو محمد الحسن بن محمد المروزى فى خطبة تعليقه: قيل: إن الشافعى، رحمه الله، صنف مائة وثلاثة عشر كتابًا فى التفسير، والفقه، والأدب، وغير ذلك، وما أحسنها، فأمر يدرك بمطالعتها، فلا يتمارى فيه موافق ولا مخالف، وأما كتب أصحابه التى هى شروح لنصوصه ومخرجة على أصوله مفهومة من قواعده، فلا يحصرها إلا الله تعالى مع عظم فوائدها وكثرة عوائدها، وكبر حجمها، وحسن ترتيبها ونظمها كتعليق الشيخ أبى حامد الإسفرايينى، وصاحبيه القاضى أبى الطيب الطبرى، والماوردى صاحب الحاوى، ونهاية المطلب، لإمام الحرمين وغيرها مما هو معروف، وكل هذا مصرح بغزارة علمه وجزالة كلامه وبلاغته، وبراعة فهمه، وصحة نيته، وحسن طويته، وقد نقل عنه فى صحة نيته نقول كثيرة مشهورة، وكفى بالاستقراء فى ذلك دليلاً قاطعًا وبرهانًا صادعًا.
قال الساجى فى أول كتابه فى الاختلاف: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعى يقول: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم، على أن لا ينسب إلىَّ منه حرف، فهذا إسناد لا يمارى فى صحته. وقال الشافعى، رحمه الله: وددت إذا ناظرت أحدًا أن يُظهر الله الحق على يديه. ونظائر هذا كثيرة مشهورة. ومن ذلك مبالغته فى الشفقة على المتعلمين، ونصيحته لله تعالى وكتابه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وذلك هو الدين كما صح عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الذى ذكرته من أحواله وإن كان كله مشهورًا، فلا بأس بالإشارة إليه ليعرفه من لم يقف عليه
فصل فى نوادر من حكم الشافعى، رضى الله عنه، وجزيل كلامه
قال رحمه الله: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم. وقال: ما تقرب إلى الله تعالى بشىء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. وقال: ما أفلح فى العلم إلا من طلبه فى القلة، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعسر علىَّ. وقال: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلة النفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النفس أفلح. وقال: تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه.
وقال: من طلب علمًا فليدقق؛ لئلا يضيع دقيق العلم. وقال: من لا يحب العلم لا خير فيه، ولا يكون بينك وبينه صداقة ولا معرفة. وقال: زينة العلماء التوفيق، وحليتهم حسن الخلق، وجمالهم كرم النفس. وقال: زينة العلم الورع والحلم. وقال: لا عيب بالعلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه وزهدهم فيما رغبهم فيه. وقال: ليس العلم ما حُفظ، العلم ما نفع. وقال: فقر العلماء فقر اختيار، وفقر الجهال فقر اضطرار. وقال: المراء فى العلم يقسى القل ويورث الضغائن. وقال: الناس فى غفلة عن هذه السورة: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1، 2]، وكان قد جزأ الليلة ثلاثة أجزاء، الثلث الأول يكتب، والثانى يصلى فيه، والثالث ينام.
وقال الربيع: نمت فى منزل الشافعى ليالى، فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرًا. وقال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت فى عصر الشافعى كان أتقى لله ولا أروع ولا أحسن صوتًا بالقرآن منه. وقال الحميدى: كان الشافعى يختم فى كل يوم ختمة. وقال حرملة: سمعت الشافعى يقول: وددت أن كل علم يعلمه الناس أوجر عليه ولا يحمدونى قط. وقال أحمد بن حنبل، رحمه الله: كان الشافعى، رحمه الله، قد جمع الله تعالى فيه كل خير.
وقال الشافعى: الظرف الوقوف مع الحق كما وقف. وقال: ما كذبت قط، ولا حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا. وقال: ما تركت غسل الجمعة فى برد ولا سفر ولا غيره. وقال: ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتى. وفى رواية: من عشرين سنة. وقال: من لم تعزه التقوى فلا عز له. وقال: ما فرغت من الفقر قط. وقال: طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد.
وقيل للشافعى: ما لك تدمن إمساك العصى ولست بضعيف؟ فقال: لأذكر أنى مسافر، يعنى فى الدنيا. وقال: من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة. وقال: من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها، ومن رضى بالقنوع زال عنه الخضوع. وقال: خير الدنيا والآخرة فى خمس خصال: غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، ولبس التقوى، والثقة بالله عز وجل على كل حال.
وقال للربيع: عليك بالزهد. وقال: أنفع الذخائر التقوى وأضرها العدوان. وقال: من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه، واجتناب المعاصى، ويكون له خبئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل. وفى رواية: فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء، وبعض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب.
وقال: يا ربيع، لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها. وقال ليونس بن عبد الأعلى: لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضى الناس كلهم فلا سبيل، فاخلص عملك ونيتك لله عز وجل. وقال: لا يعرف الرياء إلا المخلصون. وقال: لو أوصى رجل بشىء لأعقل الناس صرف إلى الزهاد. وقال: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب. وقال: العاقل من عقله عقله عن كل مذموم.
وقال: لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص مروءتى لما شربته، ولو كنت اليوم ممن يقول الشعر لرثيت المروءة. وقال: للمروءة أربعة أركان: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك. وقال: المروءة عفة الجوارح عما لا يعنيها. وقال: أصحاب المروءات فى جهد. وقال: من أحب أن يقضى الله له بالخير فليحسن الظن بالناس.
وقال: لا يكمل الرجل فى الدنيا إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة. وقال: أقمت أربعين سنة أسأل إخوانى الذين تزوجوا عن أحوالهم فى تزوجهم، فما منهم أحد قال إنه رأى خيرًا. وقال: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته. وقال: من صدق فى إخوة أخيه قبل علله، وسد خلله، وغفر زلله. وقال: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا. وقال: ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم. وقال: لا تقصر فى حق أخيك اعتمادًا على مودته.
وقال: لا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردك. وقال: من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك. وقال: من نَمَّ لك نَمَّ بك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك، وإذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك. وقال: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل. وقال: من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. وقال: من سام بنفسه فوق ما تساوى رده الله تعالى إلى قيمته. وقال: الفتوة حلى الأحرار.
وقال: من تزين بباطل هتك ستره. وقال: التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام. وقال: التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة. وقال: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله. وقال: إذا كثرت الحوائج فابدأ بأهمها. وقال: من كتم سره كانت الخيرة فى يده. وقال: الشفاعات زكاة المروآت. وقال: ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت الله صوابه فى قلبه.
قال: أبين ما فى الإنسان ضعفه، فمن شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة مع الله تعالى. وقال: قال رجل لأُبى بن كعب، رضى الله عنه: عظنى، فقال: وَاخِ الإخوان على قدر تقواهم، ولا تجعل لسانك مذلة لمن لا يرغب فيه، ولا تغبط الحى إلا بما تغبط به الميت. وقال: من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد فى الدنيا قرت عيناه بما يرى من ثواب الله تعالى غدًا. وقال: كن فى الدنيا زاهدًا، وفى الآخرة راغبًا، وأضدق الله تعالى فى جميع أمورك تنج غدًا مع الناجين. وقال: من كان فيه ثلاث خصال فقد أكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر به، ونهى عن المنكر وانتهى عنه، وحافظ على حدود الله تعالى.
وقال لأخ له فى الله تعالى يعظه ويخوفه: يا أخى، إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها للقبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله، وارض برزق الله تعالى، ولا تستلف من دار بقائك فى دار فنائك، فإن عيشك فىء زائل، وجدار مائل، أكثر من عملك، وقصر من أملك.
وقال: أرجى حديث للمسلمين حديث أبى موسى، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل مسلم يهودى أو نصرانى، وقيل: يا مسلم، هذا فداؤك من النار"(1). رواه مسلم فى صحيحه. وقال: الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط.
قال: ما أكرمت أحدًا فوق مقداره إلا اتضع من قدرى عنده بمقدار ما زدت فى إكرامه. وقال: لا وفاء لعبد، ولا شكر للئيم، ولا صنيعة عند نذل. وقال: صحبة من لا يخاف العار عار يوم القيامة. وقال: عاشر كرام الناس تعش كريمًا، ولا تعاشر اللئام فتنسب إلى اللؤم. وقال له رجل: أوصنى، فقال: إن الله تعالى خلقك حرًا، فكن حرًا كما خلقك. وقال: من سمع بأذنه صار حاكيًا، ومن أصغى بقلبه كان واعيًا، ومن وعظ بفعله كان هاديًا.
وقال: من الذل أشياء: حضور مجلس العلماء بلا نسخة، وعبور الجسر بلا قطعة، ودخول الحمام بلا سطل، وتذلل الشريف للدنىء لينال منه شيئًا، وتذلل الرجل للرأة لينال من مالها شيئًا، ومداراة الأحمق، فإن مداراته غاية لا تدرك. وقال: من ولى القضاء ولم يفتقر فهو لص. وقال: لا بأس على الفقين أن يكون معه سفيه يسافه به. وقال: إذا أخطأتك الصنيعة إلى من يتقى الله عز وجل فاصطنعها إلى من يتقى العار.
(1/67)
فصل فى أحرف من المنقولات من سخائه
اعلم أن سخاء الشافعى، رحمه الله، مما اشتهر، حتى لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بعلم أو مخالطة الناس، ولكنى أنثر منه أحرفًا:
قال الحميدى: قدم الشافعى، رحمه الله، من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار، فضرب خباءه خارجًا من مكة، فكان الناس يأتونه، فما برح حتى فرقها كلها. وقال عمرو بن سواد: كان الشافعى أسخى الناس بالدينار والدرهم والطعام. وقال البويطى: قدم الشافعى مصر، وكانت زبيدة ترسل إليه برزم الثياب والوشى، فيقسمها بين الناس. وقال الربيع: كان الشافعى راكبًا على حمار، فمر على سوق الحدادين، فسقط سوطه من يده، فوثب إنسان فمسحه بكفه وناوله إياه، فقال لغلامه: ادفع إليه الدنانير التى معك، فما أدرى كانت سبعة أو تسعة
قال: وكنا يومًا مع الشافعى، فانقطع شسع نعله، فأصلحه له رجل، فقال: يا ربيع، أمعك من نفقتنا شىء؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: سبعة دنانير، قال: ادفعها إليه. وقال أبو سعد: كان الشافعى من أجود الناس وأسخاهم كفًا، كان يشترى الجارية الصناع التى تطبخ وتعمل الحلواء، ويقول لنا: تشهوا ما أحببتم، فقد اشتريت جارية تحسن أن تعمل ما تريدون، فيقول بعض أصحابنا: اعملى اليوم كذا وكذا، وكنا نحن نأمرها. وقال الربيع: كان الشافعى إذا سأله إنسان شيئًا يحمر وجهه حياء من السائل، ويبادر بإعطائه، رحمه الله ورضى عنه.


فصل فى منثور من أحوال الشافعى، رحمه الله
قال الربيع: سمعت الشافعى يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المنام قبل حلمى، فقال لى: يا غلام، فقلت: لبيك يا رسول الله، قال: ممن أنت؟ قلت: من رهطك، قال: ادن منى، فدنوت منه، ففتح فمى، فأمر من ريقه على لسانى وفمى وشفتى، وقال: امض بارك الله فيك، فما أذكر أنى لحنت فى حديث بعد ذلك ولا شعر.
وعن أبى الحسن على بن أحمد الدينورى الزاهد، قال: رأيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فى المنام، فقلت: يا رسول الله، بقول مَن آخذ؟ فأشار إلى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فقال: خذ بيد هذا فأت به ابن عمنا الشافعى ليعمل بمذهبه فيرشد ويبلغ باب الجنة، ثم قال: الشافعى بين العلماء كالبدر بين الكواكب.
قال الشافعى: ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة. وفى رواية: ما ناظرت أحدًا قط إلا على النصيحة. وقال أبو عثمان محمد بن الشافعى: ما سمعت أبى ناظر أحدًا قط فرفع صوته. وقال الربيع: رأيت من الشافعى ما لا أحصى، وكان إذا انصرف اتشح بردائه، ووضعت له منارة قصيرة، واتكأ على وسادة وتحته مضريتان، ويأخذ القلم فلا يزال يكتب.
وقال الربيع: سمعت الشافعى يقول: أريت فى المنام كأن آتيًا أتانى، فحمل كتبى فبثها فى الهواء، فسألت بعض المعبرين، فقال: إن صدقت رؤياك لم يبق بلد من بلاد الإسلام إلا ودخل علمك فيه. وقال حرملة: رأيت الشافعى يقرىء الناس فى المسجد الحرام وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
وقال بحر بن نصر: كنا إذا أردنا أن نبكى قمنا إلى الشافعى، فإذا أتيناه استفتح القراءة حتى تساقطوا وكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة، لحسن صوته. وقال الربيع: سمعت الشافعى يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. وقال: أحب أن تكثروا الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال المزنى: ما رأيت من العلماء من يوجب للنبى - صلى الله عليه وسلم - فى كتبه ما يوجبه الشافعى لحسن ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشافعى فى القديم: إن الدعاء يتم بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتمته بها. وقال الكرابيسى: سمعت الشافعى يقول: يكره أن يقول الرجال: قال الرسول، لكن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ تعظيمًا له. وقال حرملة: سمعت الشافعى يقول: سميت ببغداد ناصر الحديث. وقال المزنى: ناحت الجن ليلة مات الشافعى، رضى الله عنه.
وقال الإمام الحافظ محمد بن مسلم بن دارة، بالراء: لما مات أبو زرعة الرازى رأيته فى المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: قال لى الجبار سبحانه وتعالى: ألحقوه بأبى عبد الله، وأبى عبد الله، وأبى عبد الله، الأول مالك، والثانى الشافعى، والثالث أحمد بن حنبل. وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الهاشمى: رأيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فى المنام، فقال: الشافعى فى الجنة، أو من أهل الجنة. وقال أبو العباس الأصم: رأيت عبد الله بن صالح فى المنام وذكرت الشافعى، فأشار عبد الله بيده نحو السماء، وقال: ليس ثم أكبر منه.

No comments:

Post a Comment